Sunday, September 13, 2009

*القصص الحق وجزئيات الواقع .. سورة إبراهيم أنموذجاً

القصص الحق وجزئيات الواقع .. سورة إبراهيم أنموذجاً

_________________________________

عادة ماتتدفق الآيات القرآنية لتنتقل بنا من مشهد إلى مشهد ضمن انسيابية مميزة لايمكن للإنتاج البشري مجاراتها أو محاكاتها .. فتراه ينتقل من حال الأقوام في الدنيا ليصور مشهداً حوارياً في الآخرة واضعاً بين أيدينا خيوطاً لابد لنا من محاولة تلمسها و إدراكها فيتجاوز حدود المكان والزمان وتنقلنا مشاهده الرمزية لنعيش أدق حالات الصراع الأزلي بين الحق والباطل وبين الإصلاح والإفساد في الأرض ، بين من يحمل فكرة أو كلمة وبين من تتقاذفه أهواؤه ومصالحه وكل مسببات الفتنة في هذه الحياة …

فلنتوقف عند مشهد أو لقطة من هذه اللقطات المسجلة قرآنياً بدقة لعلنا نصل إلى ماقد نستطيع إسقاطه إسقاطاً واقعياً يكون فيه عبرة .. وتجاوزاً للمقدمات والإرهاصات وبعيداً عن الحديث عن مايتوجب إعداده في النفس الإنسانية لتصل إلى مرحلة النهوض بالفكرة ، فإن النتيجة الحتمية التي لامفر منها والتي يركز عليها القرآن في مواضع عدة هي الصدام بين حملة الفكر وبين عبدة الأهواء والمصالح الشخصية حيث تتوالى المشاهد وصولاً للحظة الفصل ، عندها سيجد المصلحون أنفسهم أمام خيارين اثنين : أسهلهما التنازل عن ما يحملونه من مبادئ والعودة لسيطرة المجموع أو النفي والتشريد خارج حدود الأرض المستهدفة … وكثيراً مايأخذ التضيق والنفي طابعاً معنوياً يتجلى بحصار فكري يهدف إلى وأد الدعوات في مهدها حتى لاتعكر صفو الأجواء العقائدية والفكرية المنحرفة ذات الطبيعة الآبائية بسبب ماتحفظه هذه الأجواء من تواطؤ على طبقية اجتماعية وسياسية وتبعية وعبودية لغير الله (تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ) إبراهيم 10

وفي مراحل كثيرة تكون الهجرة وسيلة للفرار بالفكر خشية عليه من الاندثار وخوفاً من عودته وتكريره اجتماعياً ليعود في فكر الملة الأولى (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) إبراهيم 13 …

تخاطب الآيات في سورة إبراهيم بإشارة مباشرة جميع المصلحين الصامدين في وجه الاستبداد الداخلي وأركانه في كل زمان ،كما تمتد ظلالها لتحيط بتلك الثلة من الأحرار الذين يقفون من بعيد ينظرون إلى الأقوام الذين تركوهم هناك ، يرمقونهم بنظرة الأسى لأحوالهم والعتب على ماقد لاقوا منهم في الماضي من الاستنكار والتضييق .. فتأتي الآيات لتثبت هؤلاء وتذكرهم بالوعد الأول الذي يستحق أن يكون سنة من سنن هذا الكون ونواميسه ( فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) ، فلابد لفكر الجهل والظلام أن يبيد طالما أنه لايحمل بين جوانحه مقومات الاستمرار والاستخلاف .. أما الفكر النير فإنه موعود بالاستخلاف (وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ) ابراهيم 14..

وبعيداً عن أجواء هذه الآيات وبنظرة سريعة للواقع نرى أن التضييق عادة ماينجم عنه غياب الأفكار والجهود وضياعها كما أن النفي والتشريد قد يأتي بنتائج كارثية على المشاريع النهضوية .. ولكن لماذا ؟

مالذي يخلق هذه الفجوة بين الواقع الذي نعيشه وبين الكلام القطعي لهذه الآيات ومثيلاتها في سور أخرى ؟

في الحقيقة إن مايحدث على أرض الواقع هو انصهار تدريجي للمبادئ السليمة مع جملة القيم الفاسدة للمجتمع ومحاولات إيجاد صيغ تقريبية والتي عادة ماتكون لصالح الكفة الأخرى .. أما بالنسبة للذين يخرجون من أرضهم فكثيراً مايكون هذا الخروج أو الإخراج عاملاً سلبياً لاقتران معظم المشاريع الإصلاحية برقعة جغرافية محددة توضع على أساسها الأولويات وتحدد من خلالها القيم السلبية المستهدفة في عملية التغيير ، فيكون الخروج مفقداً لتوازن المشروع مؤدياً لاضمحلاله ، بالإضافة إلى ركون الإنسان صاحب المشروع إلى حياة أخرى والغرق في تفاصيل كانت خارج نطاق تفكيره ، كما لاننسى ما لمسألة التجمع حول مشروع معين من أهمية لإحاطة المشروع نفسه بأصحابه ممايخلق نوعاً من المناعة الذاتية التي تشبه تلك المناعة التي يحصل عليها الوليد من أمه والتي ستوضع على المحك في اللحظات الأولى من الفطام فتظهر عندها المستوى الحقيقي لقوة الجسم أمام المتغيرات والواقع الجديد ..

إن حالة الصدمة هذه لهي من الخطورة بحيث أنها كثيراً ماتؤدي إلى ضياع المشروع وضياع الإنسان نفسه حامل الفكرة والعزيمة .. وبالتالي تضاؤل الأمل بحدوث تغيرات قريبة … وإذا كان الصبر على الأذى والتوكل على الله عند أي مواجهة مع القيم الفاسدة من أهم شروط الاستخلاف في الأرض وتبدل موازين القوى لصالح فكر التحرر (وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) إبراهيم 12 .. فإن الصبر في حالة الإخراج من الأرض والنفي والتشريد يعد مطلباً أساسياً يبقي الإنسان ضمن جو من الارتباط النفسي مع الحالة التحررية وسيكون ذلك بمثابة انطلاقة جديدة لذلك الفكر من موقع جديد يستطيع محاصرة الفكر الاستبدادي في مواقعه وتحصيناته …

والنقطة الجوهرية التي قد تعتبر حاسمة في مسألة الهجرة أو البقاء هو مدى القدرة على الصمود والتأثير في المجتمع فطالما لايستطيع الاستبداد الوصول إلى مرحلة الاستكبار التي يتحول فيها المصلحون إلى مستضعفين يساهمون بشكل أو بآخر في تمايز الصورة الكلية للمجتمع إلى فئة المستكبرين والمستضعفين ، فإن الصبر والمتابعة تكون عندها إلزامية أما إذا وصلت الأمور لدرجة ضياع مشروع النهضة واستضعاف أفرادها فإن الهجرة بالفكرة تكون أمراً لامفر منه (إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ظَالِمِيۤ أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي ٱلأَرْضِ قَالْوۤاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً) النساء 97

وبالعودة إلى أجواء سورة إبراهيم … نرى أن الآيات الحوارية بين المؤمنين والكافرين توضعت في قلب السورة وسبقتها آيات أشارت إلى جزء من مسيرة موسى ثم تلتها لمحة عن إبراهيم عليهما السلام ومن خلال هذا التموضع فإنني سأحاول تلمس بعض المعاني المستوحاة من هذه القصص ..

تتناول الآيات هنا مشهد عودة موسى إلى قومه ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) إبراهيم 5 .. تعطي شخصية موسى نموذجاً لإنسان هرب من قومه بعد ارتكابه جرماً وخروجه هائماً على وجهه خائفاً من بطش قومه (رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) القصص 21 ، فكان ذلك الخروج بداية مرحلة طويلة من الإعداد لتحمل مسؤولية عظيمة ، ولو افترضنا جدلاً أن تلك المرحلة كانت مرحلة تقهقر وركون لحياة رغيدة أو انشغال بهموم الحياة الجديدة لدرجة نسيان الذات وماكلفت به لكانت تلك النفس غير مؤهلة لحمل الأمانة والصدع بها ، ولكن الذي نعلمه مما ينقله القرآن لنا أن خروج موسى المطارد بسبب ذنب ارتكبه تحول إلى رسالة حملها معه من المنفى ليحاصر الشرك والجهل في عقر داره ثم ليخرج بني إسرائيل من ظلمات القهر والقتل والسبي والاستعباد إلى نور العبودية لله والتحرر من عبودية البشر ، ثم ليترك وراءه من أراد أن يبقى غارقاً في بحر أخطائه وظلمه لنفسه وللآخرين ، ثم سيبدأ بعدها مرحلة طويلة من الإعداد لبني إسرائيل الذين لم تكن نفوسهم مهيأة بعد لحمل الأمانة وتأسيس مجتمع العدل والحريات ، وعلى مايبدو فإن موسى لم يقدر له أن يعيش كي يرى آخر ثمار عمله إلا أنه بالتأكيد كان قد وضع أسس بناء ذلك المجتمع واختار له القواعد المتينة ..

وفي مشهد محوري آخر تنقلنا السورة إلى عصر آخر وتجربة مختلفة مع إبراهيم عليه السلام الذي سميت السورة بإسمه فهو صاحب السبق في مواجهة تركيبة مجتمعية فيها كل أشكال الجهل والانحراف الفكري ، فأحدث برسالته صدمة على كل المستويات وتناول كل الشرائح الاجتماعية التي تنوعت عبادتها بين عبادة المجسمات الثابتة وبين الكواكب المتحركة ، بالإضافة إلى اصطدامه بالفئة الحاكمة المتألهة وبأتباعها مع تنكر أقرب الناس له ووقوفهم في طريق دعوته .. ثم سيخرج بعد معاناته في قومه وصبره على الأذى دون أن يحقق النجاح الذي يصبو إليه ، يخرج مهاجراً في رحلة طويلة يبتغي فيها أرضاً صالحة للنهوض ، ليكون قدره الاستقرار في أرضٍ قاحلة لازرع فيها ، ولكنها ستكون تربة خصبة ثابتة تؤسس عليها أركان الدعوة الأولى لتجمع الأحرار في كل زمان وتكون قبلة للناس ينطلقون حجاً إليها أو تلتقي أفئدتهم ومشاعرهم عندها في عبودية مطلقة لله (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) إبراهيم 37 ، ثم لتعود تلك الدعوة مرة أخرى ( تحقيقاً للوعد الإلهي) لمحاصرة الاستبداد والجهل الذي يحاول دائماً أن يخمد دعوة الحق والعدل (فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ) إبراهيم 47 .. وتبقى دعوة إبراهيم قدوةً لكل الدعوات في كل زمان مثلها كمثل شجرة طيبة دائمة ومتجددة لاينقطع خيرها أبداً

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء ) إبراهيم 24

(ؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) إبراهيم 25

مع تأكيد الآيات كما في آيات كثيرة غيرها على أهمية الصلاة كحالة من الارتباط المتواصل مع الله تضمن تصحيح المسيرة ومعالجة النكبات ، وأهمية تخصيص المال والجهد والوقت على المشاريع التي تخدم الرسالة في شتى المجالات و لابد من إعطاء الأهمية الكبرى لمشروع بناء النفس بالدرجة الأولى والذي قد يكون الطابع السري الصامت له طابعاً ملائماً لتربية النفس وإعدادها بشكل ملائم ، كما لابد أن يعطى الاهتمام الكافي لمشاريع علنية أخرى نقدمها كاقتراحات وأفكار عملية محددة للخروج من الأزمات وتحقيق النهضة من جديد (قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلالٌ) إبراهيم 31…

هذا النسيج المتماسك الذي يجمع تفاصيل السورة حيث الحديث عن حالة صمود المصلحين داخل مجتمعاتهم أمام القيم المزيفة ، ثم الانتقال للحديث عن الخروج من هذه المجتمعات والبحث عن انطلاقة جديدة للعودة من جديد عودةً ليس بالضرورة أن تكون حركة فيزيائية ففي قصتي إبراهيم وموسى عليهما السلام لم يسجل عودتهما إلى المكان الذي خرج منه كلٌ منهما ، إلا أن خروجهما كان خطوة على طريق النهوض بدعوات ومشاريع عالمية عمّ خيرها وتجاوزت في تأثيرها الحدود الجغرافية التي كانت تعيق حركتها وتفرض ظروفاً معينة قد تجعل المشروع أسيراً للتجاذبات الموجودة ومركزاً تضع فيه مراكز القوى ثقلها …

وخلاصة ماوجدته أن هذا السورة بمافيها من إشارات مباشرة ورمزية كالعديد من السور الأخرى يجب توظيفها حسب توجهها وحسب أفكارها المحورية ، وهي هنا في هذه السورة يجب أن توجه لمن هم في المواجهة ومن هم مبعدون خارجها ، لعلها تكون سنداً ودعماً وقد تكون بداية انطلاقة جديدة تستمد أركانها من القصص الحق …

………….

عماد العبار

1 comment: